كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية، وغير ذلك من المواضع، وأحلنا عليها مرارًا.
تنيبه:
اعلم أنه يجب على كل إنسان إن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان، لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، وذلك قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَآئِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24- 32].
والمعنى: انصر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه، من هو الذي خلق الماء الذي صار سببًا لإنباته هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود. ثم هب أن الماء خلق، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقى به الأرض من غير هدم ولا غرق؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع؟ ثم هب أن الزرع طلع، فمن هو الذي يقدرعلى إخراج النسبل منه؟ ثم هب أن النبل خرج منه، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحًا للأكل؟
{انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]، والمعنى: انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفًا لا يصلح للأكل، وانظروا إلى ينعه، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعًا مدركًا صالحًا للأكل، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه قادر على كل شيء منعم عليكم عظيم الإنعام، ولذا قال: {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض} أي عن النبات شقًا إلى آخر ما بيناه، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} يعني لو نشاء تحطيم ذلك الزرع لجعلناه حطامًا، أي قتاتًا وهشيمًا، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم، ومفعول فعل المشيئة محذوف للاكتفاء عنه بجزاء الشرط، وتقديره كما ذكرنا، وقوله، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}.
قال بعض العلماء: المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم.
وقال بعض العلماء: تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42].
وقال بعض العلماء: تندمون على معصية الله التي كانت سببًا لتحطيم زرعكم، والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر.
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}.
تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانًا عظيمًا على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضًا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه، والمعنى: أفرأيتم الماء الذين تشربون الذي لا غنى لكم عنه لحظة ولو أعدمناه لهلكتم جميعًا في أقرب وقت: {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون}.
والجواب الذي لا جواب غيره هو أنت يا ربنا هو منزله من الزمن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك فيقال لهم: إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكرًا لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48- 49]. وقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي لو نشاء جعله أجاجًا فعلنا، ولكن جعلناه عذابًا فراتًا سائغًا شرابه، وقد قدمنا في سورة الفرقان أنالماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى. لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب. جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30] وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [بالمؤمنون: 18] لأن الذهاب بالماء وجعله غورًا لم يصل غليه وجعله أجاجًا، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء، وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك، أن أصله كله نازل من المزن، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [سبأ: 2] الآية وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فلولا بمعنى هلا، وهي حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وحض والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض.
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربيه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه لغوي:
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة وإلى المنعم أخرى، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النحل: 19] الآية، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك: نحمد الله ونشكر له، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام، كقوله: {وَاشْكُرُواْ لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ} وقوله: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وقوله: {واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وقوله: {فابتغوا عِندَ الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه هي اللغة الفصحى، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن، ومن ذلك قول أبي نخيلة:
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى ** وما كل من أوليته نعمة يقضى

وقول جميل بن معمر:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما ** على عذبة الأنبياب طيبة النشر

فإنكما إن عجتما لي ساعة ** شكرتكما حتى أغيب في قبري

وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب لو باللام، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ، لأنه تعالى قال: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] باللام ثم قال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} بدونها.
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}.
قوله تعالى: {التي تُورُونَ} أي توقدونها من قولهم: أورى النار إذا قدحها وأوقدها، والمعنى: أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها، أي أوجدتموها من العدم؟
والجواب الذي لا جواب غيره: أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها، ونحن لا قدرة لنا بذلك فيقال: كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء؟ وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث، وجاء موضحًا في يس في قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عليمالذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} [يس: 79- 80] فقوله في آخر يس {تُوقِدُونَ} هو معنى قوله في الواقعة: {تُورُونَ} وقوله في آية يس {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَارًا} بعد قول: {يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث، وقوله هنا {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار، ومن أمثال العرب في كل شجر نار، واستنجد المرخ والعفار، لأن المرخ والعفار هما أكثر الشجر نصيبًا في استخراج النار منهما، يأخذون قضيبًا من المرخ ويحكمون به عودًا من العفار فتخرج من بينهما النار، ويقال كل شجر فيه نار إلا العناب.
وقوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرةً} أي تذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا سدة حرارتها. نار الآخرة التي هي أشد منها حرًا لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أن حرارة نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة. فهي تفوقها بتسع وستين ضعفًا كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا.
وقوله تعالى: {وَمَتَاعًا لِّلْمُقْويِنَ} أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد، وهم المسافرون، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعًا عظيمًا في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ واردًا للامتنان. وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهومًا للموقين، لأنه جيء بهللامتنان أي وهو متاع أيضًا لغير المقوين من الحاضرين بالعمران، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى، فالرجل إذا كان في الخلا قيل له: أقوى. والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت.
ومنه قول نابغة ذبيان:
يا دار مية بالعلياء فالسند ** أقوت وطال عليها سالف الأبد

وقول عنترة:
حيث من طلل تقادم عهده ** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل {للمقوين} أي للجائعين وقيل غير ذلك والذي عليه الجمهور هو ما ذكرنا.
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}.
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}.
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، وأكد إخباره بأنهذا القرآن العظيم هو حق اليقين، وأمر نبيه بعد ذلك بأن يسبح باسم ربه العظيم.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية ذكره الله جل وعلا في آخر سورة الحاقة في قوله في وصفه للقرآن {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الحاقة: 50- 52]، والحق هو اليقين.